ثم بعد ذلك لما وقع الشرك في قوم نوح نستطيع أن نقول: جاءت إذاً قرون الانحراف, ونحن لا ندري كم هذه القرون، لكن من حقنا أن نفترض -كما حدث في كل الأمم وكل الأنبياء- أن الشرك عندما ينتشر ويعم ويطغى فإن الله سبحانه وتعالى يبعث رسولاً يردهم إلى التوحيد، ومن هنا ننفي كل الخرافات التي تقول: إن الذي علم البشرية التوحيد هو أخناتون أو غيره، هذا كله لا حقيقة له على الإطلاق, وسوف نبين ذلك حتى من الديانة الفرعونية نفسها -إن شاء الله تبارك وتعالى في حلقة قادمة.
المقصود: أن الانحراف والوقوع في الشرك كان بفترة معينة وكان بشكل معين، هذا الشكل وضحه بكل جلاء أيضاً الحديث الصحيح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وهو: (أن وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً -المذكورة في سورة نوح عليه السلام- أسماء رجال صالحين، ولكن الناس الذين جاءوا من بعدهم أرادوا تعظيماً وإجلالاً لهم واقتداء بهم في عبادة الله تبارك وتعالى وفي توحيده؛ صوروهم لتكون لديهم قدوة أمامهم ماثلة، -وهذا دليل على أن التصوير والنحت قديم ومعرف في تلك العصور القديمة المتعمقة- ثم بعد ذلك وقعوا في الشرك، وجاء الشيطان إليهم حتى عبدوا هذه الصور).
ما لدينا الآن من الآثار المنقبة أو من صور قديمة عن بقايا هذه الأمم -في حضارة ما بين النهرين بالذات- يكشف لنا حقيقة أن المصوَّرين الموجودين هم أشبه ما يكون بالمصلي الخاشع في حالة وضع يده على صدره في الصلاة، وهي الحالة الإسلامية التوحيدية التي لا يشارك المسلمين فيها أية أمة من الأمم في حالة الصلاة، مما يدل على أن هذه الصور إما قديمة أو منقولة عن تلك الصور الأولى ولا يهمنا هذا.
المقصود: أن هذه الصور تؤكد الحقيقة العظيمة وهي: أن البشرية كانت على التوحيد, وأن هؤلاء فعلاً صوَّروهم في حالة الصلاة, وبعضهم بلحية وافرة؛ بل إنهم في بعض الأحيان في حالة تشبه حالة الإحرام أيضاً للعبادة. ومعلوم أن الأنبياء جميعاً من آدم إلى نوح إلى غيرهم كلهم حجوا البيت الحرام في مكة المشرفة، وكانت الكعبة مبنية ومعروفة إلى أن تقادم العهد وهُدمت، ثم جاء إبراهيم عليه السلام فأراه الله تبارك وتعالى مكان البيت كما قال تعالى: (( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ ))[الحج:26], فبوأ له مكانه فعرفه، فأعاد بناءه على القواعد, كما قال تعالى: (( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ ))[البقرة:127]؛ فالقواعد والأساسات كانت موجودة, ثم رفعها إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة السلام.
إذاً نحن نقول: إن فترة الانحراف هذه فترة لا يعلمها إلا الله.
أضف تعليقا
تنويه: يتم نشر التعليقات بعد مراجعتها من قبل إدارة الموقع